الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي | الألم... السرديّة الصامتة (5/5)

Yves Klein

 

تستكمل هذه المقالة البحث في واقع معاناة النساء الفلسطينيّات المصابات بسرطان الثدي ضمن منظور جندريّ، استكمالًا لسلسلة المقالات الّتي تتناول واقع النساء المصابات بسرطان الثدي استنادًا إلى كتاب «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة» (2021).

أبحث في هذه المقالة سرديّة الألم المرتبطة بالسياقات الطبّيّة والاجتماعيّة والذاتيّة لمرض السرطان، من علاقة المريضة بنفسها، إلى علاقتها بالآخرين، وحتّى العلاقات الاجتماعيّة الّتي تتشكّل بين المريضات داخل مجتمع المرضى. 

 


 

إنّ دلالة المرض أو الأمل تقوم على بناء حكائيّ للمرض الّذي يلملم ما تجعله قصّته الشخصيّة يحسّ به من مرضه ليمزجه بالكلام الّذي يقوله الأطبّاء والممرّضون والمرضى والشهادات المستقاة هنا وهناك، بالسماع كما بالقراءة أو الاستطلاعات التلفزيونيّة، وهو يمزج فيها تأويله الخاصّ وحالات الندم والقلق والآمال الّتي يعيش، القول هو مخرج العجز ووسيلة أخيرة، كي لا يجرفه الألم، ومعارضة له بمقاومة عنيدة، إنّ منح معنًى للألم يمكّن المريض من ألّا يظلّ في الهاوية ويتمسّك بنظرته للأشياء[1]. إنّ قصص الألم هي فحوى الأصوات المعذّبة من الذوات المتألمّة، القويّة الهشّة، الضعيفة الهشّة، قصص مليئة بتلك الاختناقات المشتّتة المذابة بين تفاصيل الكلام، إنّها كالإيقاع الّذي يتموّج في أوتار هؤلاء النساء.

تلك الآلام وتلك العذابات الّتي يختزلها الجسد في معركتة الداخليّة، المعركة الّتي تدور بين الإنسان وذاته، معركة أنا مع الذات، لا مجال للفرار أو الاختباء فيها، كلّ ما فعلته هؤلاء النساء هو تكوّرهن حول أنفسهن حاضنات لهذا الألم بدواخلهنّ، فقط لحظات الانتظار مع جحيم الألم هي سيّدة الموقف، وأثناء ذلك لا ينظرن إلى كيفيّة تماهيه في ثنايا محيطهنّ الاجتماعيّ، ففي اللحظات القصوى يغدو الألم هو الأنا في حدّ ذاتها.

 

في اللحظات القصوى

في اللحظات القصوى لا أحد يتقاسم الألم مع صاحبه، مهما بلغت المقاربة العاطفيّة بينهما، إنّها الوطأة المختزلة في العمق البعيدة المتناثرة في الجسد، الوطأة الّتي يتحوّل فيها النطق إلى شيء خارج عن قدرة تلك الأجساد المحتضنة للألم، ويغدو الأنين الصامت هو المنفذ الوحيد، إنّه احتراق داخليّ واسع المدى.

في اللحظات القصوى من الألم تغدو اللغة شيئًا مقفرًا متعبًا، وتغدو الآذان غير قادرة على سماع الكلمات الّتي كانت تطربها، الألم فقط هو الّذي يخرج من تلك الشفاه المرهقة في تلك المعركة. في اللحظات القصوى من الألم يتوه الأبناء، فالرباط الدمويّ هنا لا يمتصً قليلًا من هذا الألم، ألمهم يتماهى في دواخلهم معلنًا الانتظار، أو بالأحرى إنّه جحيم الانتظار، استهداف الفرد في كلّيّة ’محيطه‘.

في اللحظات القصوى من الألم تغدو اللغة شيئًا مقفرًا متعبًا، وتغدو الآذان غير قادرة على سماع الكلمات الّتي كانت تطربها، الألم فقط هو الّذي يخرج من تلك الشفاه المرهقة في تلك المعركة...

في اللحظات القصوى من الألم تغدو مهامّ الحياة مختلفة، ويبدو المريض فاقدًا عاجزًا، وفي ظلّ هذا العجز تتراوح أمامه أحلامه، تلك الأحلام الّتي لم تعهدها يومًا، إنّها أحلام العودة إلى الحياة الطبيعيّة وإرهاصاتها، إنّها مهامّ المنزل والخروج من البيت وإعداد الطعام وتدريس الأطفال والضحك واللعب، كلّ هذه الأحداث الروتينيّة تتحوّل عند مريضة السرطان إلى أحلام، أحلام حقيقيّة تراها ملء كونها، ترقب هذه الأحلام وهي تقترب منها كلّما خفّ الألم عنها.

في اللحظات القصوى من الألم تغدو المرآة شيئًا قبيحًا يغضّ الطرف عنه، الشاهد على الشحوب، الشاهد على الحطام، الشاهد على الذبول، في تلك اللحظات الّتي يسعى فيها الجسد ليرمّم ذاته شيئًا فشيئًا ناظرًا إلى تلك العيون الّتي ترقبه، وترقب رجوعه، إنّها عيون الأبناء، العيون الّتي ما تنفكّ تراكم على ذلك الألم أضعافه الكثيرة.

في اللحظات القصوى من الألم يقف الطبّ والأطبّاء في عجز عن احتواء هذا الألم الّذي استوطن الجسد، إنّه الانطلاقة الكلّيّة في التفرّع في ثنايا الجسد، وحدها المهدّئات القويّة مَنْ تجلب بعضًا من الراحة لساعات معدودة، ولحظات قد تفشل في استحضارها، إنّها تمنّيّات الخلاص فقط.

 

إمبراطور المرض..."يا الله أيام"

تقترن كلمة السرطان في الثقافة المجتمعيّة بالموت، وتجري ممارسة تصوّرات سرطان الثدي لا باعتباره اعتلالًا مؤقّتًا، بل حالة من الموت المتجسّدة داخله؛ فلا يمكن فهم المرض إلّا باعتباره احتمالًا نهايته المؤكّدة هي الموت، ولا يمكن استيعاب حقيقة الشفاء منه، فهو اعتلال دائم بالصحّة يصل بالمرأة إلى النهاية، فيُنْعَتُ السرطان بغير اسمه ليسمّى بـ ’المرض الخبيث‘، أو ’ذلك المرض‘، بوصفه الشيء الّذي يجب أن يبقى بعيدًا عن الجسد حتّى في أحرف نطقه.

لبنى ’ك‘ أصيبت بسرطان الثدي، من قطاع غزّة تصف السرطان قبل الإصابة به، قائلة:

"كنت أعتبر السرطان مرض مخيف وبعيد عنّي، بعيد عني كثير، لم أتخيّل أن يقترب منّي، أو أن أصاب بالسرطان، لمّا كنت أسمع باسم السرطان، أشعر بالقشعريرة، ما كان عندي أيّ معلومات، عن ايش هو السرطان، حتّى كلمة السرطان كنّا نخاف نحكيها، نحكي "هذاك المرض.. بعد أن أصبت بالمرض وجدت أنّني يجب أن أتعامل معه، أن أكون أقوى منه"[2].

وإن كان وجه الألم هذا يتشكّل من خلال نظرة النساء لهذا المرض وتكسيرهنّ للخوف من واقع معاناتهنّ، فإنّ للألم شكل آخر يتمثّل في ألم يسكن هذه الأجساد نتيجة الخوف على الأبناء، ويكون ظاهرًا بقوّة في لحظات الإصابة الأولى بالمرض؛ إذ تغدو فكرة ’الموت‘ في أوجها نتيجة لما يحدث من تفاعل بين المفاهيم الاجتماعيّة حول المرض المذوّبة في تلك الذوات ووقع الإصابة، فتتحوّل المفاهيم إلى ’حقيقة‘، والحقيقة هنا تأتي من خلال التفكير بالموت كاحتمال أوّل، تتحدّث زينب ’ك‘ أصيبت بسرطان الثدي، من قطاع غزّة قائلة:

تقترن كلمة السرطان في الثقافة المجتمعيّة بالموت، وتجري ممارسة تصوّرات سرطان الثدي لا باعتباره اعتلالًا مؤقّتًا، بل حالة من الموت المتجسّدة داخله...

"لمّا خبّرني الطبيب بأنّي مصابة بالسرطان أوّل اشي فكّرت فيه ولادي، ابني في الصفّ الأول، وبنتي في الخامس، صرت أتطلّع على ولادي، واحنا بنربط السرطان بالموت، وكان الي صاحبة كان معها سرطان ثدي وتوفّت، خطرت في بالي، أنا ما خبّرت ولادي، كنت أعيّط مش قدامهم، الواحد بعرف السرطان انّو مش موت، لمّا يعيش التجربة بعرف إنّها مش هيك... ولكن بتصيري تفكّري بدي أموت ومين بدّو يربّي ولادي! الأمّ تفكيرها بروح على الأولاد، لمين بدّها تتركهم"[3].

وجه آخر تتحدّث عنه المشاركة وهو الألم الّذي يتقاطع مع القهر، إذ يخلق تخلّي الآخرين عن المريضة حالة من التيه بين آلام المرض وآلام الخذلان والتخلّي، بوصف المريضة "شيئًا قد انتهى" أو "يوشك على الانتهاء".  تتحدّث هناء ’س‘، أصيبت بسرطان الثدي من قطاع غزّة، عن تلك الرواية الأكثر إيلامًا، رواية  الخذلان في ثنايا التجربة، تقول:

"أنا لمّا بطلب من زوجي مواصلات لأروح على دائرة العلاج بالخارج في غزّة بقلّي دبري حالك، اضطريت أطلب الفلوس من ابن أخي في إحدى المرّات... واضطريت أخد أجار الطريق لأجيب التغطية الماليّة من جارتنا لحين سدادهم.... وفوق هاد كلّه بيقلي انتي خاربة دياري وهادي الكلمة بسمعها باليوم ما يقارب 200 مرّة. أنا وصلت لمرحلة أفكّر بالانتحار، وأتخلّص من حياتي، بس عندي بنت عمرها 3 سنوات وبنت بالروضة وبنت مريضة هما الي منعوني من الانتحار، لأنه ولادي متعلقين فيا بشكل كبير.... أنا كتير وقت بمشي بالشارع وما بعرف وين أروح، وكتير بطلّع من البيت مخنوقة وبلاقي ولادي ماسكين فيا... أنا بحسّ عمري 100 سنة مع إنّه عمري الحقيقي 38"[4].

ثمّة جانب آخر للقهر المسبّب للألم هو الألم الناتج عن الفضول الّذي ينتاب الناس، في محاولة لمعرفة تفاصيل ما حدث مع هذه المرأة، ثمّ إعطاء انطباعاتهم عن إصابتها بمرض السرطان وهي في العادة انطباعات تعطي المرض صفة العقوبة الإلهيّة. لقد أوضحت المشاركات كيف أنّ تدخّلات الآخرين في معرفة ما حدث معهنّ من خلال محاولة لمس أجسادهنّ، لاستشكاف إذا ما تمّت عمليّة استئصال الثدي، واعتبار المرض بأنّه عقاب ربّانيّ، والسؤال المتكرّر حول ما حدث معهنّ، إضافة إلى كلمات المواساة بأنّ الموت شأن الله؛ أوضحت المشاركات أنّ تلك الممارسات كانت الأكثر قهرًا لهنّ.

تتحدّث ميسر ’ح‘، أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، عن ذلك قائلة:

"أكثر اشي مؤلم هو تدخّل الناس، هناك بعض الناس كانوا يسلّموا علي ويضعوا ايدهم على صدري عشان يشوفوا صدري استُئصِلْ أم لا، في بعض المواقف كنت أقول للنساء لإحراجهم لمّا يسألوني لو أنا مش في الشارع بورجيكي صدري، ومش غلط لو استأصلته عشان صحّتي مش عشان اشي ثاني، في إحدى المرّات طلبت امرأة منّي أن أكشف لها عن صدري، حتّى تتأكّد بإني لم أستأصله، قلتلها ولا بالأحلام، هذا شيء لا يعنيك، أنا لم أكن أعطي للناس مجالًا للتدخّل في خصوصيّاتي... لكنّي ما عمري انتبهت لصدري، ولكن بعد كلام الناس بصير في نوع من الهوس... كنت أقوم في الليل أحسّس على صدري موجود ولا غير موجود... الناس تعتبر المرض عقاب من الله، أنّ المرأة مقترفة ذنب، وأن الله جازاها به، وليس ابتلاء، كانوا أهلي يقولوا مثل شعبي لندب ما أصابني "والله لو إنّا في الليل بنسرق، وفي النهار بنخرق" ليش ربنا مرّضك هذا المرض؟ نفس الاشي... الناس كانوا يتعاملوا مع هذا المرض بمعنى إنّ المريض والقبر واحد، واحدة من النساء عمرها 80 سنة، قالتلي ديري بالك، بجوز أنا أموت قبلك، ما تخافي، يعني بتقارن حالها فيّ، أنا أصغر منها بأربعين سنة، يعني خلص افترضت إنّي بدّي أموت، وبتواسي فيّ إنّها ممكن تموت قبلي!"[5].

إنّ المرض، عدا عن السرطان، لا يشكّل في النظام الاجتماعيّ بالضرورة شكلًا من أشكال الموت الحتميّة بقدر ما  يشكّل اعتلالًا في الجسد يوجب الشفاء منه ولو بعد حين، أمّا السرطان فينظر له في النظام الاجتماعيّ كشكل من أشكال الموت الحتميّة الّتي ستشكّل مونودراما نهاية الحياة بالنسبة للمرأة المصابة بالسرطان، والّتي يرافقها عديد من التصوّرات؛ فإذا كانت المرأة المصابة ومحيطها تنظر للمرض بوصفه ابتلاءً، فالآخرون يتطلّعون لمرضها بأنّه عقاب من الله نهايته الموت.

 

المعركة الأكبر...  ’معركة الكيماويّ‘

معركة الكيماويّ هي المعركة الأكبر في تجربة السرطان، وتتحوّل هذه المعركة من كونها في العادة تتّخذ نمط المتضادّين المرئيّين، إلى معركة داخليّة غير مرئيّة بين أعضاء الجسد والألم، معركة اللا مقاومة، لحظات الانتظار والصبر على هذا الألم، لحظات الانتظار الّتي توازي الجحيم ذاته.

تصف المشاركة عايدة ’ع‘،  أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، هذه المعركة بالقول:

"ما تعذّبته في الكيماوي يمكن لو إنّي في حرب وضربوا نووي أهون علي، يمكن أقعد في مكان وأختفي، بس أنا في حرب داخليّة بيني وبين الكيماوي، مش قادر أتخلّص منّه ولا لحظة، حرب داخليّة"[6].

لذا يدرك الأطبّاء عمق هذه المعركة، وما يحاولون القيام به شرح الوضع للمريضة، وإعطاؤها تصوّرًا حول ساعاتها وأيّامها المقبلة، لتهيئة نفسها للألم وتجنّب حالات الهلع والخوف. يوضّح لوبروطون في كتابه «تجربة الألم» (2010) أنّ "مهمّة الطبّ تتطلّب نوعيّة الحضور وتغيير العلاج حسب الأفراد، ولكي يتمّ تفادي خيال مستهجن لدى المريض، على الطبيب أن يدمجه في العلاجات وأن يتعامل معه كشريك لا كشيء، وحين يمنح الطبيب معلومات عن العلاج وآثاره فإنّه يمنح للمريض الفرصة في أن يغدو فاعلًا في علاجه، ولا يغدو للعذاب الأثر نفسه إذ ما سَحَبَ منه الاهتمام الطبّيّ الإحساس بالعجز". لكنّ ما تبيّنه رواية المشاركات في الدراسة أنّ الأطبّاء كانوا حريضين على أن يتم وضع هؤلاء النساء في تصوّر حول ما سيحدث لهنّ، مع نصائح وارشادات، في ما لم تبيّن روايات المشاركات في الدراسة أنّ المريضات استُشِرْنَ في خطّة العلاج، أو محاولة تفسير وتوضيح نوعيّة العلاج وآليّة اختياره، بحيث تجلّت منظومة الطبّ بوصفها شيئًا منفصلًا عن الناس تحمل تلك المهارات العلميّة الّتي تطبّق على الجسد كمادة فيزيايئيّة مرئيّة، تُطَبِّقُ من خلالها المهارت العلميّة ضمن لغة يتناقلها الأطبّاء بينهم تتجسّد في مصطلحات ومفاهيم طبّيّة معقّدة.

مهمّة الطبّ تتطلّب نوعيّة الحضور وتغيير العلاج حسب الأفراد، ولكي يتمّ تفادي خيال مستهجن لدى المريض، على الطبيب أن يدمجه في العلاجات وأن يتعامل معه كشريك لا كشيء...

يؤدّي ذلك إلى نشوء مجموعتين منفصلتين داخل الحقل الطبّيّ؛ مجموعة الأطبّاء الّتي تملك الخطاب الطبّيّ وتمارسه على الجسد، ومجموعة المرضى المنفصلة عن هذا الخطاب، والّتي تسلم هذا الجسد للطبيب بوصفه ’الخبير‘. المفارقة هنا هي حالة الاستسلام الّتي تبديها المريضات تجاه خطط علاجهنّ، وإذا أردنا فهم حالة ’الاستسلام‘ هذه من خلال روايات المشاركات في الدراسة، يتبيّن لنا عدم وجود أيّ محاولات لإشراك النساء في خطط علاجهنّ بلغة ومفاهيم تقترب من مفاهيمهنّ ولغتهنّ كمريضات.

إنّ هؤلاء النساء يجدن أنفسهنّ فجأة مسكونات بالألم والخوف، فلا يُفْهَمُ السرطان إلّا من خلال الكيماويّ، بمعنى لا يجري تصوّر ألم السرطان إلّا من خلال تصوّر ألم الكيماويّ، بحيث يصبح الكيماويّ المعنى المختزل للألم في السرطان، هو ذروته القصوى من العذاب الداخليّ والتكوّر حول الذات.

 

من يستطيع الوصول إلى العمق؟

إنّ من يستطيع الوصول إلى عمق الشعور بالألم هنّ اللواتي عايشن الألم ذاته، الأشخاص اللّواتي أصبن بالمرض وتنقّلن بين مؤسّساته ومورست عليهنّ خططه العلاجيّة الّتي أقرّها الأطبّاء. وحدهنّ من تجمعهنّ فكرة الألم، وفكرة فهم هذا الألم تتجاوز فكرة الحديث عنه، إنّها فكرة الإحساس والشعور به. بمعنى إن سألتهنّ عن ذلك الألم فهنّ لا يُجِدْنَ الحديث عنه بطريقة توازي مقداره، إنّهنّ فقط يستشعرنه، وذلك ما يشير إلى اللغة الضيّقة والفقيرة أمام عالم الإحساس والمشاعر. كما أنّها عمليّة بحث عن هويّة مشتركة مع الآخرين، بحيث يتحوّل الألم إلى مركّب مهمّ في تعريفهنّ عن أنفسهنّ، تعريف يجمعهنّ بما عايشوا من هذا الألم، إنّها العلاقات الراسخة الّتي تُبْنَى في سياق الألم.

تتحدّث المشاركة لين ’خ‘، أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، عن علاقة الصداقة الّتي نشأت بينها وبين رفيقاتها في العلاج، تقول: "تشكّلت بينا صداقة، في إحدى الصديقات اللي تعرّفت عليها في الكيماوي، قعدنا أنا وايّاها جنب بعض، بدأنا نحكي، تعرّفنا على بعض، وقالتلي انّو انتشر من الثدي وانتقل للعمود الفقريّ. تعلّقت بالنساء اللي هناك، لازم أشوفها، دوّرت عليها، سمعت صوت امرأة بتعيّط وبتصرّخ، اطلعت في غرفة صغيرة قاعدة فيها، والممرّضات مش عارفين وين يحطّوا الابرة، وبحاولوا من رجلها، اطلعت عليها وما قدرت ركضت إلى الخارج وعيّطت وعيّطت"[7].

تطوّرت في السنوات الأخيرة العديد من مجموعات المرضى، خاصّة حول أنواع من الألم المزمن، تجمع هذه المجموعات مرضى يبحثون عن هويّة شخصيّة أمتن، وهي تشجّع على التواصل والحديث عن مصاب أفرادها وتُنْشِئ مواقعًا إلكترونيّة مخصّصة لتبادل الأحاديث بين المرضى[8].

تتحدّث المشاركة رائدة ’و‘، أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، عن فكرة تجمّع المرضى في مواقع التواصل الاجتماعيّ، قائلة: "سبحان الله الواحد لمّا مرض بلش يفكّر انّو نهاية العالم، ولمّا «مركز دنيا» حكى عن مجموعة المتعافيات، قبلت على طول أكون في هاي المجموعة، في هاي المجموعة شعرت بحياة ثانية، في حديث عن حلول، صديقات، مدرّبين، فعلًا تغيّرت حياتك للأفضل"[9].

تعلّق على ذلك مرح عمرو، أخصّائيّة اجتماعيّة - مسؤولة الدعم النفسيّ في «مركز دنيا» بالقول:

بعد مرحلة التعافي نبدأ بدمج السيّدات في مجموعات داعمة، نقول لهنّ بأنّ المرض ليس نهاية الحياة، نقوم بتنفيذ أنشطة داعمة لهنّ، وتدريبهنّ على إدارة مشاريع لهنّ، لإشعارهنّ أنهنّ شخصيّات فاعلة... السيّدات قلن لنا أنهنّ أصبحن يشعرن أنّ المرض ليس نهاية الحياة، نسألهنّ باستمرار عن أمنياتهنّ، وقلن لنا: بنحب نزور البحر، نسّقنا رحلتين لنساء وأخذناهم يشوفوا البحر مع بعض"[10].

 

الروتين كحلم

ولكن هل فكّرنا يومًا بالأحلام الّتي تراود مَنْ تصاب بهذا المرض؟ تبيّن رواية المشاركات في الدراسة أنّها أحلام العودة إلى الحياة الطبيعيّة، حيث روتين الحياة اليوميّة والاهتمام بالأطفال وتنظيف البيت وتحضير الطعام، هذه الأمور اليوميّة الطبيعيّة المثيرة للملل الّتي تتحوّل عند مريضة السرطان إلى حلم كبير تناضل من أجله.

تتحدّث المشاركة عايدة ’ع‘،  أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، عن ذلك بالقول: "كنت متلهّف لأرجع لبيتي، وأنظّف بيتي، وأرجع لولادي، أقعد في البيت معهم، أطبخ الهم، وأدرّسهم، وأهتم فيهم، بنتي الصغيرة كانت في الصفّ الثالث كانت تعيّط وتقولي يمّا ما بدي ايّاكي تموتي يمّا، تقولي يمّا هذا السرطان بموّت، كانت تحكيلي يمّا نفسي أشوفك في الدار معي، أنا بطّلت أشوفك في الدار، وأنا أتعالج كاينة ضلّ طول الوقت تعيّط عليّ لحالها، أنا كنت أحلم أرجع لبيت ولولادي بدّي أخدمهم أدير بالي عليهم"[11].

تذكّرها هذه التفاصيل بالحياة الطبيعيّة الّتي تربطها بكلّ من يحيطون بها ويحتاجونها، وفي اللحظات القصوى تدرك حاجتهم وارتباطهم بها معافاةً تحيط بهم وتحتضنهم،  إليها. إنّها تلك التفاصيل الصغيرة الّتي كانت تبدو ’مملّة‘ نفسها تبدو اليوم حلمًا، ذلك أنّ تلك التفاصيل تعني الحياة الطبيعيّة بكلّ ضجرها وصخبها وتعبها.

 


إحالات  

[1] لوبروطون، دافيد.  تجربة الألم، ترجمة فريد زاهي، (المغرب: دار توبقال للنشر. 2017).

[2] لبنى ’ك‘، أصيبت بسرطان الثدي من قطاع غزّة، قُوبِلَت في غزّة، شباط (فبراير) 2021.

[3] زينب ’ك‘، أصيبت بسرطان الثدي من قطاع غزّة. قُوبِلَت في غزّة شباط (فبراير) 2021.

[4] هناء ’س‘، أصيبت بسرطان الثدي من قطاع غزّة، قُوبِلَتْ في غزّة، شباط (فبراير) 2021.

[5] ميسر ’ح‘، أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، قُوبِلَتْ في رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021.

[6] عايدة ’ع‘، أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، قُوبِلَتْ في رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021.

[7] لين ’خ‘، أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، قُوبِلَتْ في بيت ريما، شباط (فبراير) 2021.

[8] لوبروطون، تجربة الألم، ص. 57.

[9] رائدة ’و‘، أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، قُوبِلَتْ في رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021.

[10] مرح عمرو، أخصّائيّة اجتماعيّة – مسؤولة الدعم النفسيّ في «مركز دنيا»، قُوبِلَتْ في رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021.

[11] عايدة ’ع‘، أصيبت بسرطان الثدي من الضفّة الغربيّة، قُوبِلَتْ في رام الله، كانون الثاني (يناير) 2021.

 


 

نور بدر 

 

 

 

مرشّحة دكتوراه في «جامعة تونس» في «كلّيّة العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة»، تعمل على أطروحة تتناول سوسيولوجيا الحكم العسكريّ الإسرائيليّ على الأجساد الفلسطينيّة ومقاومتها. صَدَر لها كتاب بعنوان: «هندسة الاضطهاد: سياسات التحكّم بالأجساد الصامتة» (2021).